مقالات خارجيّة

ماذا يعني أن تكون في قلب "حرب ناعمة"؟


ماذا يعني أن تكون في قلب "حرب ناعمة"؟
عبد الرحمن جاسم

يسخر كثيرون من فكرة "المؤامرة"، ذلك أن فكرة أننا ضمن "مؤامرةٍ" من أي نوع يجعلهم أمام أسئلة كثيرة أبرزها: ربما فكرة أننا "نحارب" يومياً في ما نؤمن به ونحارب لأجله، حتى من قبل قوى لم نسمع بها من قبل، ولم نعادها في حياتنا حتى. يسخر هؤلاء أنفسهم من فكرة "الحرب الناعمة"، من فكرة أن "بنطال جينز" أو "لوح شوكولا" هو جزءٌ من صميم تلك الحرب القائمة ضدنا. يسخر هؤلاء لأنّ سخريتهم هي جزء من ذات الحرب الناعمة الموجودةِ أصلًا بهدف تدمير ثقتنا بأنفسنا، مما يقودنا إلى الكفر بكل ما هو عزيزٌ وحقيقي.

تنتصر المقاومة في حروبها العسكرية، ذلك امرٌ لا ريب فيه، لكن المقاومة لا تكون للجميع المقدار نفسه. فالمقاومة هي فعلٌ "جمعي"، فعلٌ كقطرات المطر يغطي مساحةً واسعة، لكن كلٌ بمقداره وكل بحسب قواه وقدراته. يحمي المقاتل الميدان بسلاحه ويده على الزناد، ويحمي الفلاح الأرض من خلال عمله، ويحمي الإعلامي المقاومة بلسانه وقلمه، كلٌ بحسب قدراته وعلمه وعمله. المشكلة اليوم أنَّ الجميع يعتقد بأن هذه المقاومة لا تقوم إلا بالسلاح . هنا تكمن قيمة معرفتك بفكرة الحرب الناعمة، هنا فقط يمكنك إدراك أهمية ألا تكون وقوداً ضد أهلك وناسك في تلك الحرب. 

تدخل الحرب الناعمة عميقاً في حياتنا . يمر البرنامج الترفيهي المضحك المسلّي على قنوات التلفزة اللبنانية بسهولةٍ ويسر. تمر أيضاً من خلال تلك البرامج الكثير من العادات والتقاليد والتقليعات المشينة والقبيحة وغير الأخلاقية بشكلٍ مخيف. ومع هذا، هل هناك من ردة فعل؟ كلا. هنا نجد ان الناس باتوا يتقبلون الكلام الجنسي ذا الإيحاءات المقصودة و"القذرة" ويشاهدونها مع أحبتهم وأطفالهم كما لو أنها أمر بات معتاداً. هل من حسيب؟ هل من مقص رقيب؟ كلا. من يراقب حال الإعلام اللبناني خلال السنوات العشر المنصرمة يمكنه ملاحظة أنَّ لغة الخطاب في تلك التلفزيونات قد تغيّرت وبشكلٍ مخيف، فكلمات ذات معانٍ إباحية باتت اليوم جزءاً من ثقافة التلفاز، بعدما كان مجرد الإشارة إلى هذه الكلمات أو الإيحاء بها يعني إيقافا للبرنامج أو إغلاقاً للمحطة، فضلاً عن ردة فعلٍ شعبية عفوية تجاه الموضوع بحد ذاته. هنا تبدو الحرب الناعمة متجليةً في أوضح صورها: بات الأمر الأخلاقي قابلاً للنقاش، باتت الشتائم والكلمات الجنسية والنابية محط "حوار" بدلاً من رفضها بشكلٍ قاطع لأن مكانها ليس التلفاز الذي يدخل بيوت العائلات ويلقّن حركاته وسكناته للأطفال قبل الكبار. 

فالحرب الناعمةُ أساساً هي دخول إلى قلب المجتمع "بحد" ذاته وتمزيقه من الداخل،وإفراغه من مضمونه الأساسي والحقيقي وتحويله إلى مجتمعٍ "هش" قابلٍ للإنكسار، إذا لم يكن للإنفجار. إنها ببساطة شديدة تجعلك "غاضباً" من لا شيء، ومستعداً للقتال - والقتل حتى - من أجل ذلك "اللاشيء" الذي لاتعرف ماهيته. 

وقبل كل شيء،لابد من سؤالٍ مباشر يطرح نفسه: هل هناك فعلاً حربٌ ناعمة تمارس علينا؟ ستشعر في لحظةٍ ما بأن الأمور عادية، لكن يمكن ملاحظة الأمور بشكلٍ أكثر دقة إذا ما نظرنا بإمعانٍ أكثر. هناك في بلادنا مئات الجمعيات "الخيرية" (NGO)، والتي تموّل وبشكلٍ "مباشرٍ"/"علني"/"رسمي" من الغرب (الاتحاد الأوروبي-US Aid) ولا تخفي هذه الجمعيات جهات تمويلها البتة، بل بالعكس إنها تلجأ إلى إشهار الأمر في كل مناسباتها وتحركاتها. هل يدفع الغرب المال كرمى لسواد عيوننا؟ يمكن التفكير في الأمر قليلاً والإجابة ستكون حاضرةً وبقوة. جانبٌ آخر: منظمات الأمم المتحدة العاملة في بلادنا، ما هو دورها الحقيقي؟ هل هي فعلاً عبارة عن مؤسساتٍ هدفها "السلام" و"العدالة" وسواها من المسميات "الكبرى"؟ متى كانت آخر مرة قامت هذه المؤسسات بدورٍ حقيقي في "حماية السلام"؟ أو "حماية الأبرياء"؟ ألم يكن العدو الصهيوني حراً في القيام بما يريد لولا المقاومة مثلاً؟ هل نفعت كل قرارات الأمم المتحدة في ردعه مرة؟ 

تبقى نقطة واحدةٌ كي تكتمل الصورة: أنظر حولك في حياتك اليومية، ماذا تشتري من "الدكان"، ماذا تشاهد على التلفاز. هل ما تلبسه أنت تختاره؟ أم يتم اختياره لأنه مناسبٌ "لموضةٍ" ما صنعها أحدٌ غربي لا تعرف عنه شيئاً، لكن ومع هذا "يسير" رأيه عليك؟ هل تأكل فعلياً ما تريد؟ أم أنك تتأثر أيضاً بأنواعٍ وأطباقٍ ومأكولاتٍ "تجتاح" عالمك فجأة وخصوصاً تلك "الغربية" منها صاحبة الإعلانات المدفوعة بالملايين؟ راقب أكثر،ماذا عن المشروبات الغازية؟ هل تنبهت مرةً أن هذه الماركات المشهورة كلّها وبلا استثناء، تدعم الدولة العبرية؟ كلها أسئلةٌ تثير القلق وتؤكد فكرةً واحدة: إن الحرب الناعمة قائمة، سواء أردت أم لم ترد، أحببت أم لم تفعل. وفي كل الاحتمالات هناك حلان: أن تأخذ مكانك وتحارب، أو أن تصمت وتختار أن تقتل. هكذا هو الأمرُ فحسب!

أن تكون في قلب الحرب الناعمة معناه أن تتعرض لكمٍ هائلٍ من ضغوطٍ نفسية وإعلامية يوميةٍ ولحظيةٍ حتى هدفها الأول والأخير أن تحيد عن هذا الخط المقاوم، وليس مهماً إن "حدت" ولو قليلاً ولو "مليمتراً" واحداً فحسب، المهم أن تحيد: أن تحيد أخلاقياً، أن تحيد عاطفياً، أن تحيد فكريًا. الهم الوحيد لهؤلاء هو أن تبتعد، فمن يبتعد دون وعيٍ اليوم، سيجد نفسه بعيداً كثيراً بعد أيامٍ، وبعد فترة سيبتعد لوحده وعن وعيٍ هذه المرة.

أضيف بتاريخ: 04/08/2015